السبت, 12 يوليو 2025
مادة إعلانية

- بين المطرقة الأمريكية والسندان التاريخي: نهاية وهم "القيادة الثورية" الإيرانية

الأربعاء 18 يونيو 2025
- بين المطرقة الأمريكية والسندان التاريخي: نهاية وهم "القيادة الثورية" الإيرانية

بقلم: عبد العزيز الخبشي


في خضم التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، تتبدى المشاهد كأنها إعادة إنتاج فجّة لتاريخ الاستبداد المتخفي بعباءة الثورة. عندما يطالب ترامب، مجددا، النظام الإيراني بالاستسلام دون قيد أو شرط، فهو لا يخاطب دولة ذات سيادة، بقدر ما يخاطب مشروعا منهكا كان يقتات على أوهام التوسع الإقليمي وشرعية المقاومة، التي دمرها بيديه حين حولها إلى غطاء أيديولوجي لتثبيت نظام أوليغارشي قائم على القمع، والطائفية، والارتباط غير العضوي بموازين قوى تقليدية باتت متآكلة. المأزق الإيراني اليوم ليس فقط عسكريا أو دبلوماسيا، بل هو مأزق وجودي لنظام استنفد شرعيته التاريخية، وقايض ثروات شعبه على حروب الوكالة، ورهن استقلالية قراره السياسي لاستراتيجيات توسعية لم تكن يوما دفاعا عن شعب أو أمة، بل تثبيتاً لسلطة رجال الدين والأمن والاقتصاد الريعي.

تبدو الخيارات المطروحة أمام إيران اليوم كأنها لعبة صفرية: إما أن "تأخذ كل شيء"، عبر المجازفة بالدخول في حرب شاملة بمفعول انتحاري قد لا يترك شيئاً من النظام ولا من أحلام "الهلال الشيعي"، أو أن "تترك كل شيء"، وتقر بالهزيمة الكاملة، وتسلم برنامجها النووي، وتغلق منشأة فوردو، وتنسحب من كل الجبهات التي عبثت فيها منذ عقود، من بيروت إلى صنعاء، مروراً ببغداد ودمشق وغزة. لكن الواقع أعمق من هذا التبسيط الثنائي، لأنه لا يطرح فقط مصير إيران، بل مصير مجمل البنى التي تأسست على أنقاض فشل الحركة التحررية في الشرق الأوسط، والتي اغتيلت تحت مسميات "الثورة الإسلامية"، "الممانعة"، أو "الإسلام المقاوم". وما سقط في الحقيقة هو وهم الاستعاضة عن الثورة الاجتماعية والسياسية بأخرى دينية – مذهبية.

الخطاب الإيراني القائم على مفردات الكرامة والمظلومية لم يعد يقنع حتى الشيعة أنفسهم داخل إيران أو في الضاحية الجنوبية. أصبح مكشوفاً أنه غطاء لتجويع الداخل وتسليح الخارج، وأن كرامة الشعوب لا تُبنى بخطابات "الموت لأمريكا"، بل بالعدالة الاجتماعية، وبوقف الفساد، وبالحرية السياسية التي حرم منها الشعب الإيراني طيلة 46 سنة من الاستبداد المعمم. اليوم، تقف طهران أمام تركة ثقيلة من الحروب بالوكالة، من اليمن حتى لبنان، وتورط مباشر في مشاريع جيوسياسية لم تكن سوى خدمات مجانية للإمبريالية الروسية، مقابل شرعية دولية موهومة. إنها لحظة كشف الحساب عن مجازر، واغتيالات، وتدخلات، وصناعة شبكات مسلحة تسببت في تدمير بلدان بكاملها.

لكن لا يجب أن يُغفل هذا المشهد حجم النفاق الغربي نفسه. فمطالبة إيران بالاستسلام اليوم لا تعني بالضرورة انتصاراً للحرية، بل تجديدا لاستعمار المنطقة بطرق أخرى. إنها عملية تقاسم نفوذ جديدة تشبه ما بعد سايكس بيكو، حيث لا تُعاد صياغة الشرق الأوسط إلا على جثث شعوبه، ومقابل ضمان أمن إسرائيل. بل إن التهديد الأمريكي لإيران يذكّرنا بالمسرحية التي سبقت غزو العراق، حيث العدو يُرسم أولا، وتُبنى الذرائع لاحقا، ويُساق العالم نحو حرب مبرمجة وفق مصالح المجمع الصناعي العسكري، وليس وفق ضرورات التحرر أو حقوق الإنسان.

في كل الحالات، يبقى النظام الإيراني محشورا في زاوية ضيقة. فخيار الحرب لن يُكسبه تعاطفا دوليا، ولا حتى بين قوى اليسار في العالم، لأنه تحوّل من ضحية للهيمنة إلى شريك في أنظمة الهيمنة. وخيار الاستسلام لن يكون مجرد قبول بشروط الغرب، بل انهياراً داخليا يعيد عقارب الزمن إلى ما قبل 1979، حيث لا مكان للعمائم في السياسة. ومع ذلك، لا بد من التنبيه إلى أن انهيار النظام لا يعني بالضرورة ولادة الديمقراطية، بل قد يكون فوضى مدمرة إن لم تُحتوَ من داخل المجتمع الإيراني نفسه.

إن مأزق إيران اليوم هو مأزق كل الأنظمة التي تبني مشروعها على الخرافة، لا على الواقع، والتي تفضل إنفاق مئات المليارات على الصواريخ والميليشيات، بدل بناء الدولة والمجتمع. ما يسقط اليوم ليس مجرد نظام إيران، بل فكرة أن الطغيان يمكن أن يتدثر بلغة التحرر ليخدع الجماهير. الشعوب لا تُحرر بالحرب، بل بالخبز والكرامة والحرية. لذلك، فإن لحظة الحساب آتية، سواء اليوم أو غدا، لإيران، كما هي آتية لإسرائيل، ولكل الأنظمة التي ساهمت في تمزيق المنطقة، خدمةً لمصالحها أو لسلطة فئوية لم تكن يوماً امتداداً للحلم التحرري، بل كابوسا جاثما على صدور الفقراء والمظلومين من طهران حتى غزة.


مقالات ذات صلة

من فاس إلى العالم: امتحان الجماهير في زمن التنظيم الحديث
كتاب وآراء

من فاس إلى العالم: امتحان الجماهير في زمن التنظيم الحديث

بلقم: عبدالعزيز الخبشيإذا كان نجاح التنظيم الأمني واللوجستي لمباراة المغرب وتونس الودية في فاس قد بعث برسالة واضحة إلى الداخل...

0 تعليقات
موسم اللحم ... في سوق البشرية
كتاب وآراء

موسم اللحم ... في سوق البشرية

بقلم: يوسف وفقير  يبدو أن اللحم، في هذه الأيام، لم يعد مجرد مادة غذائية تطهى على مهل فوق نار هادئة، بل تحول إلى كنز...

1 تعليقات

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية لتصلك التحديثات الجديدة يوميًا

نحن نحترم خصوصيتك. لن نشارك بريدك مع أي طرف ثالث.

تعليقات الزوار (0)

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا المقال

أضف تعليقًا

سيتم مراجعة تعليقك قبل النشر

اشترك في نشرتنا البريدية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني

جميع الحقوق محفوظة لموقع bawabapress.com © 2025
شروط الاستخدام سياسة الخصوصية تم إنشاء وإدارة الموقع بواسطة AppGeniusSARL